أعطى الله الجنّ قدرات لم يعطهـا للبشر ، و قد حدثنا الله عن بعض قدراتهم ، فمن ذلك :
سرعة الحركة و الانتقال :
فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه ، فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك : ( قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وَإِنِّي عليه لقويٌّ أمينٌ – قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلمَّا رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ) [ النمل : 39-40 ]
سبقهم الإنسان في مجالات الفضاء :
و منذ القدم كانوا يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء ، فيسترقون أخبار السماء ، ليعلموا بالحَدَث قبل أن يكون ، فلما بعث الرسول صلى الله عليه و سلم زيدت الحراسة في السماء : ( و أنَّا لمسنا السَّماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً و شهباً و أنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسَّمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَّصداً ) [ الجن : 8-9 ]
و قد وضح الرسول صلى الله عليه و سلم كيفية استراقهم السمع ، فعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، و هو العلي الكبير . فيسمعها مسترقو السمع ، و مسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه ، فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، و ربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة . فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا و كذا : كذا و كذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ) ( رواه البخاري في صحيحه : 8/538 . و رقمه : 4800 ) .
و قد يكون استراقهم السمع بطريق أهون عليهم من الطريق الأولى ، وذلك بأن تستمع الشياطين إلى الملائكة الذين يهبطون إلى العنان بما يكون من أحداث قدرها الله ، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( الملائكة تتحدث في العنان – و العنان الغمام – بالأمر يكون في الأرض ، فتستمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن الكاهن كما تقرّ القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة ) ( رواه البخاري : 6/338 .ورقمه : 3288 )
علمهم بالإعمار و التصنيع :
أخبرنا الله أنه سخر لنبيّه سليمان ، فكانوا يقومون له بأعمال كثيرة تحتاج إلى قدرات ، و ذكاء ، و مهارات : ( و من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه و من يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير (12) يعملون له ما يشاء من مَّحاريب و تماثيل و جفانٍ كالجواب و قدورٍ رَّاسِيَاتٍ (13) ) [ سبأ : 12-13 ]
و قد ذكر ابن تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره و قال له : " إن الجن يرونه شيئاً براقاً مثل الماء و الزجاج ، و يمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به ، قال فأخبر الناس به ، ويوصلون إليّ كلام من استغاث بي من أصحابي ، فأجيبه ، فيوصلون جوابي إليه " ( مجموع الفتاوى : 11/309 )
قدرتهم على التشكل :
للجن قدرة على التشكل بأشكال الإنسان و الحيوان ، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ، و وعد المشركين بالنصر ، و فيه أنزل : ( و إذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم ) [الأنفال : 48]
و لكن عندما التقى الجيشان ، و عاين الملائكة تتنزل من السماء ، ولى هارباً : ( فلمَّا تَرَاءتِ الفئتان نكص علـى عقبيه و قال إني بريءٌ منكم إِنِّي أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) [ الأنفال : 48 ]
و قد جرى مع أبي هريرة قصة طريفة رواها البخاري و غيره ، قال أبو هريرة : ( وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، و قلت : و الله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : إني محتاج ، و عليّ عيال ، و لي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا أبا هريرة ، ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قال : قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة و عيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه كذبك و سيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه سيعود ، فرصدته ، فجاءَ يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ قال : دعني فإني محتاج ، و عليّ عيال ، لا أعود ، فرحمته ، فخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك ؟ ) قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة و عيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله . قال : ( أما إنه كذبك و سيعود ) ، فرصدته الثالثة ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هذا آخر ثلاث مرات ، إنك تزعم لا تعود ، ثمّ تعود ! قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قال : قلت : ما هنّ ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [البقرة : 255] حتى تختم الآية ؛ فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ، و لا يقربنّك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قلت : يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله ، قال : ما هي ؟ قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [ البقرة : 255 ] و قال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، و لا يقربك شيطان حتى تصبح ، و كانوا أحرص شيء على الخير . قال النبي : ( أما إنه قد صدقك و هو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ) قلت : لا ، قال : ( ذاك شيطان ) ( صحيح البخاري : 4/486 . و رقمه : 2311 . و يرى بعض العلماء أن الحديث منقطع ؛ لأنه لم يصرح بالسماع من شيخه عثمان بن الهيثم ، و الحديث وصله النسائي و غيره . انظر : فتح الباري : 4/488 )
فقد تشكل هذا الشيطان في صورة إنسان . و قد يتشكل في صورة حيوان : جمل ، أو حمار ، أو بقرة ، أو كلب ، أو قط ، و أكثر ما تتشكل بالأسود من الكلاب و القطط . و قد أخبر الرسول صلى الله عليه و سلم أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة ، و علل ذلك بأن ( الكلب الأسود شيطان ) ( رواه مسلم : 1/365 . ورقمه : 510 )
يقول ابن تيمية : " الكلب الأسود شيطان الكلاب ، و الجن تتصور بصورته كثيراً ، و كذلك بصورة القط الأسود ؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره ، و فيه قوة الحرارة " .
و تتشكل الجان بشكل الحيات و تظهر للناس ، و لذا نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن قتل الحيات البيوت ، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان ) ( رواه مسلم : 4/1756 . ورقمه : 2236 )
و قد قتل أحد الصحابة حيّة من حيات البيوت ، فكان في ذلك هلاكه ، روى مسلم في صحيحه : أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، فوجده يصلي ، قال : ( فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت ، فالتفت ، فإذا حيّة ، فوثبت لأقتلها فأشار إليّ ؛ أن اجلس ، فجلست . فما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم . قال : كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة ) . فأخذ الرجل سلاحه ، ثمّ رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به ، و أصابته غيرة ، فقالت له : اكفف رمحك ، و ادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني . فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج ، فركزه في الدار ، فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتاً : الحية أم الفتى ! قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا فقال : ( استغفروا لصاحبكم ) ، ثم قال : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنّما هو شيطان ) ( رواه مسلم : 4/1756 . و رقمه : 2236 )
تنبيهات مهمة حول قتل حيات البيوت :
- هذا الحكم ، و هو النهي عن قتل الحيوانات خاص بالحيات دون غيرها .
- و ليس كل الحيات ؛ بل الحيات التي نراها في البيوت دون غيرها ، أمّا التي نشاهدها خارج البيوت فنحن مأمورون بقتلها .
- إذا رأينا حيات البيوت فنؤذنها ؛ أي نأمرها بالخروج ، كأن نقول : أقسم عليك بالله أن تخرجي من هذا المنزل ، و أن تبعدي عنّا شرّك و إلا قتلناك . فإن رؤيت بعد ثلاثة أيام قتلت .
- و السبب في قتلها بعد ثلاثة أيام أننا تأكدنا أنها ليست جنّاً مسلماً ، لأنها لو كانت كذلك ، لغادرت المنزل ، فإن كانت أفعى حقيقية فهي تستحق القتل ، و إن كانت جنّاً كافراً متمرداً فهو يستحق القتل ؛ لأذاه وإخافته لأهل المنزل .
- يستثنى من جنان البيوت نوع يقتل بدون استئذان ، ففي صحيح البخاري عن أبي لبابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقتلوا الجِنَّان ، إلا كلّ أبتر ذي طُفْيَتَيْن ؛ فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر ، فاقتلوه ) ( رواه البخاري : 6/351 . ورقمه : 3311 )
و هل كل الحيات من الجنّ أم بعضها ؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الحيّات مسخ الجنّ صورة ، كما مسخت القردة و الخنازير من بني إسرائيل )(رواه الطبراني ، و أبو الشيخ في العظمة ، بإسناد صحيح ، راجع الأحاديث الصحيحة : 104 )
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم :
في صحيحي البخاري و مسلم عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) ( صحيح البخاري : 13/159 . و رقمه : 7171 . و رواه مسلم : 4/1712 . و رقمه : 2175 )
و في الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم معتكفاً ، فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ، ثمّ قمت فانقلبت ، فقام معي ليقبلني ( يردني ) و كان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمرّ رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه و سلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله ! قال : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً ) ، أو قال : ( شيئاً ) ( رواه البخاري : 6/336 . و رقمه : 3281 )